ولو كان معنى الإفساد في الأرض مخصوصاً بقتل نبي بعينه فإن الله أخبرهم أن قتل نفس واحدة عنده كقتل الناس جميعاً فليس قتل نبي بعينه يكون بالضرورة المقصود من الإفساد الأول أو الثاني لأنهم كانوا يقتلون سبعين نبياً في الصباح ويعقدون أسواقهم بالعصر فكم وكم من الأنبياء قتلوا أو آذوا أو حاولوا أن يقتلون حتى نبينا صلي الله عليه وسلم حاولوا قتله وكما ترون فليس في كلام المفسرين من تعيين مرَّتي الإفساد في الأرض من أمر قاطع أو تبرير ساطع يصمد للنقد فقد تعددت الآراء واختلفت وتجمعت وافترقت ومن هنا فنحن نرى أن الله تعالى لم يعين أحداثاُ بعينها لعلمه أن غيبه عجيب غريب فلو أخبر الله أحداً بالتصريح أن اليهود الضعفاء المتفرقين الجبناء سيتمكنون من السيطرة على اقتصاديات العالم ويكون بيدهم مفاتيح السيطرة على زعمائه وقواده وسيفسدون الدنيا فساداً ما سبقه إليهم أحد من خلقه ربما ما صدق ذلك أحد منهم بسهولة أبداً
فإننا نرى أن كل ما سبق من إفسادهم في الأرض شاملاً كلّ ما كان منهم من سوء فعالهم وقبيح خصالهم أينما سكنوا وحلوا من لدن نبيهم موسى إلى أن شتتهم الرومان في الأرض وبعثروهم في كل مكان فكل هذا شاملاً للمرة الأولى التي حددها الغالبية العظمى بأنها مرة بختنصر ثم مرات عديدة من باب وإن عدتم عدنا وهذا بما يشمل من أفعال البابليين والآشوريين والرومان قتلاً وتدميرا واستعباداً وتشريداً ثم عودة مُلكهم في وسطها وتحسن أحوالهم مرات عديدة وسلبهم مُلكهم ثانية وقتلهم وسبيهم وانتهى الأمر بانتقام الله منهم من باب وإن عدتم عدنا بأن شتتهم الرومان في جميع الأنحاء فهذه كلها بما فيها من علو وخفض أو إفساد وعقاب ثم عودة لله وتوبة وإعادة وإصلاح وأوبة هي المرة الأولى ومكررات "وإن عدتم عدنا"
ثم عاشوا المئات من السنين كذلك وهم مشتتون لا دولة لهم ولا شوكة ظاهرة لهم إلا محافظتهم على مجتمعاتهم الصغيرة وتمسكهم بتقاليدهم وطبائعهم وسلوكياتهم وحلمهم بالعودة للأرض المقدسة التي حرموا منها وفى انتظار حدوث الفساد الثاني القاهر أو الآخر وانتقام الله الماحق فكان قيام دولة إسرائيل عام 48 بعد وعد بلفور وقد أطلق عليه اليهود وعد العودة للأرض المقدسة أو هو في الحقيقة باب وعد الآخرة ولذا قال الكثيرون من المحدثين أن تعيين المرتين هو في الحقيقة مرتبط بقيام دولة لليهود وهم لم تقم لهم دولة إلا مرتين فكأن الله تعهد لبني إسرائيل بقيام دولة لهم في هذه الأرض مرتين وبيَّن أنهم سيفسدون في هاتين الدولتين إفساداً ويعلون علوا كبيراً ثم يأتيهم انتقام الله ويُدَمَّرُون في كل مرة ويُسْلَب منهم مسجدهم أو بيت المقدس ويدمر[1] فالدولة الأولى هي التي أقامها سيدنا داود وسيدنا سليمان وحكما فيها ملوك بني إسرائيل من ذرية سليمان فأكثروا في الإفساد في الأرض وانحرفوا عن منهج الأنبياء والدولة الثانية هي إسرائيل في فلسطين والفساد والقهر والعلو فيها بالفعل قد عمَّ جميع الدنيا بلا استثناء
ثم جاء الفساد الثاني وهو الذي لم يره المفسرون القدامى أبداً وقامت دولتهم في إسرائيل كما قلنا وهذا هو التغير الأكبر الذي حدث لهم منذ أيام سيدنا سليمان فإنهم لم تقم لهم قائمة حقيقية كدولة بعد ملك داود وسليمان إلا باحتلالهم لفلسطين فنحن الآن في قلب المرة الثانية من الفساد وقد أوشكت على الانتهاء ومجيء عقابها مجيء وعد المرة الثانية أو المرة الآخرة و يؤيد ما ذهبنا إليه أن المرة الآخرة وصفها الله في موضع آخر من السورة بقوله {فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} فلكي تتحقق هذه الآية لابد أن يأتوا لفيفا من جميع البلاد وهذا ما حدث عندما أتت بهم مقادير الله لفيفا من جماعات وجماعات إلى فلسطين من جميع البقاع والأصقاع جمعهم فيها الله بوعد بلفور وهو باب تنفيذ وعد الآخرة ليلقوا في فلسطين وعد الآخرة
فالمرة الآخرة والتي فيها تدمير ما علوا تدمير والتي قبلها قد علوا في الأرض علواً كبيرا وتمكنوا من أن يبسطوا كبرهم وعلوهم وفسادهم في الأرض كلها وهى ما نحن فيه اليوم وهى التي بدأت من احتلالهم لفلسطين وما رافق ذلك وما تلاه من فظائع يشيب لها الولدان ولا يتخيلها عقل إنسان وسيبعث الله عليهم العباد أولى البأس الشديد ولا مانع من أن يتكرر جزء مما حدث من باب وإن عدتم عدنا فعند نفاذ وعد الانتقام منهم وظهور غيوب الأقدار فسيجوس العباد أولو البأس الشديد خلال الديار ولكن بما يناسب الزمان وتطور العلم والأوان فسيجوسوا بآلاتهم وأدواتهم وأجهزتهم وأدواتهم المتطورة والتي سيتمكنون بها من رؤية ما وراء الأشجار وخلف الجدر التي تحصنوا بها وما في داخل البيوت وحتى ما هو تحت الملابس وهذا العجب صار حقاً واقعاً الآن من القدرات التكنولوجية ولكن لابد من تسلح العباد أولى البأس الشديد بكل تلك القدرات حتى ينطبق الوصف عليهم لابد أن يستعدوا لهم برباط الخيل الحديث التكنولوجي وبكل ما أنتجت القريحة المتطورة حتى يكونوا جديرين بظهور النور على أيديهم وبدخول المسجد وتطهيره واستنقاذه من بين أيديهم للمرة الأخيرة إن شاء الله إنهم عباد الله أولى البأس الشديد والذين سيفعلوا ما به تسوء وجوه اليهود وتسعد به وتهنأ وتستنير وجوه أهل الإيمان
[1] لاحظ أن فتح المسلمين لبيت المقدس لم يكن فيه تدمير لبيت اليهود ولا لهيكلهم لأنه ليس بقائم يومها وهم لم ينتقموا من اليهود فليس هذا الأمر بذي علاقة بالتدمير الأخير ولذا فاليهود وبعد استيلائهم على القدس يجدون الآن في الحفريات تحت المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة وربما أقاموا رمزا للهيكل في الأيام القادمة وقد زعموا أنهم رأوا أساساته وهم بصدد ترويج أفكار إنشاء الهيكل مرة أخرى