الحمد لله الذي عَلَّم بالقَلَم ، عَلَّم الإنسان
ما لَم يَعْلَم . والصلاة والسلام على مُعلِّم الناس الخير ، الذي ما تَرَك
خيرًا إلاَّ دَلّ أمَّـتَه عليه . وعلى آله وأصحابه الْهُدَاة ، الذين
كانوا للهُدَى مَنارًا .
أما بعد :
فإنَّ الله خَلَق خَلْقَه حُنَفَاء على الفِطْرَة ،
أسْوِياء في أصل الْخِلْقَة ، وقد أبْدَى إبليس العَدَاوة لآدَم ، وأضْمَر
التحيايْد له قبل أن تُنْفَخ فيه الرُّوح ، وفي الحديث :
" لَمَّا صَوّر الله آدَم في الْجَنَّة تَرَتحياه مَا
شَاء الله أن يَتْرُكه فَجَعَل إبْلِيس يُطِيف بِه يَنْظُر مَا هو ،
فَلَمَّا رَآه أجْوف عَرَف أنه خُلِق خَلْقا لا يَتَمَالَك " . رواه
مسلم .
وفي الحديث القدسي ، يقول
الله تعالى : " وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي
حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ
فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ
لَهُمْ ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ
سُلْطَانًا " رواه مسلم .
ولَمَّا كان ذلك ابْتَعَث الله الأنبياء ، وأرسل
الرُّسُل ، وتتابعَتِ الآيات الـنُّذُر ، وجَعَل الله في الإنس والْجِنّ
مُنْذِرين ؛ لإخراج العِبَاد مِن ذُلَّ عِبادة العِباد إلى عِـزّ عِبادة رب
العباد .
وفيما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم :
" تحياانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ
الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَتحيا نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيّ " . رواه البخاري ومسلم .
أمّا هذه الأمة فقد انقطَع الوَحي بعد رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، وخُتِمَتْ بِنَبِـيِّنا
الـنُّبُوَّات ، وأبْقَى اللهُ العَلَماء يَحمِلُون مِيراث الأنبياء ، كما
قال عليه الصلاة والسلام : إِنَّ الْعُلَمَاءَ
وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ ، وإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا
وَلا دِرْهَمًا ، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ ؛ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ
أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ . رواه أبو داود
والترمذي وابن ماجه .
وبِقَدْر مَا يأخذ العَالِم والْمُتعلِّم نَصِيبًا مِن ( اقرأ ) تَزْدَاد تَبِعَته مِن ( أنْذِر )
!وكان بِشْر الحافي يقول : أدُّوا
زَكاة الْحَدِيث فاسْتَعْمِلُوا مِن كل مِائتي حَديث خَمْسَة أحاديث .
ولَمَّا كان الناس أحْوج إلى العِلْم منهم إلى
الطَّعام والشراب ، كما قال إمام أهل السنة ،
الإمام أحمد بن حنبل
، إذ يقول: الناس مُحْتَاجُون إلى العِلْم
أكثر مِن حَاجَتهم إلى الطعام والشَّرَاب ؛ لأنَّ الطعام والشراب يُحْتَاج
إليه في اليوم مَرَّة أو مَرَّتين ، والعِلْم يُحْتَاج إليه بِعَدَد
الأنْفَاس .
والطَّعام والشَّرَاب به قِوام البَدَن ، والعِلْم بِه
قِوام الرُّوح ، بل بِه النَّجاة في الدنيا والآخِرة ، ففاقِد الطعام
والشَّرَاب قد يَموت جُوعا ، فَيَهْلِك جَسَده ، وفاقِد العِلْم قد تَموت
رُوحه ، وتُوبِقه ذُنُوبه ، وتَجْتَاله الشياطين ، وقد يخسر بسبب ذلك
الدنيا والدِّين !
والفتوى شَأنها جَسِيم ، وخَطْبها عَظيم ، وقد كان
السَّلَف يَتَدافَعُون الفَتوى ، كُلّ منهم يُحيلها على صاحِبه ، طلبا
للسلامة والْخَلاص مِن تَبِعاتِها .
وكان عمر الفاروق رضي الله عنه
إذا حَزَبَه أمْر مِن أمُور الفتوى جَمَع لها تحيابار الصحابة .قال الإمام
أبو حصين عثمان بن عاصم الأسدي الكوفي : إن
أحَدهم لَيُفْتِي في الْمَسْألة ولو وَرَدَتْ على عُمَر لَجَمَع لها أهْل
بَدْر !
وقد حرص بعض إخواننا على إنشاء منتديات متخصصة في
الفتوى ، وأحْسَن الـظَّن بأخيه كاتِب هذه الأسطر ، ورغب أن أكون معه
مُعينا ، فَوَافَقْتُ ليس حُـبًّـا في تَقَحُّم الفَتوى ، ولا حِرْصًا على
وُرُود مَوارِدِها ، بل رغبة في نشْر الْخَيْر ، وفي تَعلِيم الناس ،
والسلامَة مِن تَبِعَة العِلْم الذي تَعلّمته ، ولِسَان الْحَال كما قال
الإمام الشافعي رحمه الله : وَدِدْت أن الناس تَعَلَّمُوا هذه الكتب ولم
يَنْسِبُوها إليّ .
وقد الْتَمَستُ مِن بعض مشايخنا السَّلامَة مِن
مَغَـبَّـة الفَتْوى ،
واسْتَأذَنْـتُهم في الانْكِفاف عنها ؛ فما أذِنُوا لي !بل قال لي بعض
مشايخي : مَن للـنَّاس إذا تُرِكُوا ؟
ثم أخبرني أن مِن الناس مَن يسأل ويَسْتَفْتِي بعض شيوخ
الضلالة مِن أهل البِدع المغلَّظَة !
وقد رسَمْتُ لنفسي منهجًا أن أجعل الحق هو هدفي
المنشود ، والكِتاب والسُّـنَّة هما الأصل الذي تُرَدّ إليه الأصول ، وأنَّ
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم – إذا صَحّ – مُقدَّم على كلّ قول .
وأن لا أشذّ عن أقوال علماء أهل السُّـنَّة ، وأن لا
أقول قولاً لَم أُسْبَق إليه في مسائل العِلْم ، إلاَّ أن يَتعلَّق بمسألة
مُحْدَثَة ، فإني أردّ القول إلى أصول أهل العْلِم في الْحُكم على
الْمُحْدَثَات .
ومع ذلك كله فإني لا أُغْفِل الرُّجوع إلى فتاوى
العلماء ، بل والرجوع إلى بعض مشايخي كلما أشتحيالتْ عليّ مسألة ، أو عرضَتْ
لي مُشْكِلة .
مع اعتِبَار سؤال أهل التخصص ما أمْتحيان . فإن مَن فَعَل ذلك جَمَع إلى عقله
عُقولا ، وإلى رأيه آراءً ، ولَم يَخْرُج عن الْجَادَّة .
وأسأل الله أن يُجزل الأجر والمثوبة لكل من يقف وراء
هذا العمل ، مِن بَرْمَجَة وتصميم ، وحِرص ورِعاية وتَواصُل . وأن يُعظِم
لهم الجزاء ، وأن يُجري الخير على أيديهم .
وأن يلهمنا جميعا رُشدنا .. وأن يُسَدِّدنا ويوفِّقنا
لِما فيه الْخَير والصَّلاح .