إن رجلا كان فيمن كان قبلكم أتاه الملك ليقبض روحه ، فقيل له : هل عملت من
خير ؟ ، قال : ما أعلم ، قيل له : انظر ، فقال : ما أعلم شيئا ، غير أني
كنت أبايع الناس في الدنيا وأجازيهم ، فأنظر الموسر ، وأتجاوز عن المعسر ،
فأدخله الله الجنة ) رواه البخاري .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( كان تاجر يداين الناس ، فإذا رأى معسرا قال لفتيانه : تجاوزوا عنه ، لعل الله أن يتجاوز عنا ، فتجاوز الله عنه ) رواه البخاري .
معاني المفردات
فأنظر الموسر : أي أؤجل مطالبته بالدين
يداين الناس : يقرض الناس
يتجاوز عن المعسر : أي يسقط عنه بعض الدين أو كله .
تفاصيل القصّة
قلوبٌ
نديّةٌ ، وأنفسٌ سخيّةٌ ، سخّرها الله تعالى لتكون عوناً للفقراء ، وتزول
على يدها ملامح البؤس والشقاء ، فكان أصحابها كالنهر المتدفّق عطاءً ،
يواسون الضعيف ، ويهرعون لنجدته ، ويتجاوزون عن المعسر ، ويعينونه على دفع
كربته ، أولئك هم خيرة الخلق للخلق ، وأحبّ الناس إلى الخالق :
وأسعد الناس بين الورى رجل تقضى على يده للناس حاجات
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم وعاش قوم وهم بين الناس أموات
ولم
تخلُ البشريّة يوماً من أصحاب الأيادي البيضاء ، ممّن نذروا أنفسهم لقضاء
حوائج الخلق وتفريج كرباتهم ، فسيرتهم في الناس محمودة ، وصفاتهم بالخير
مسطورة ، هذا حالهم في الأرض ، فكيف بحالهم في السماء ؟ ، قال النبي – صلى
الله عليه وسلم - : ( أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم
للناس ، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور يدخله على مسلم ، أو يكشف عنه
كربة ، أو يقضي عنه دينا ) رواه الطبراني ، وفي حديث آخر : ( إن لله أقواما اختصهم بالنعم لمنافع العباد ) رواه الطبراني .
ومن
جملة هؤلاء الأخيار ، رجلٌ أراد الله أن يخلّد ذكره في العالمين ، فتمّ له
ذلك من خلال ذكر رسول الله – صلى الله عليه وسلّم – لقصّته ، ليكون مثالاً
يقتدي به الناس ويتأسون بفعله ذلك .
لم
يكن لذلك الرجل كثير عبادة وصلاح ، ولكنّ الله منّ عليه بالمال الوفير
والعطاء الكثير ، فأوسع عليه رزقه حتى غدا من كبار التجّار الذين يُشار
إليهم بالبنان ، وكلما زاد رزقه ، زاد لله شكره ، بلسانه حمداً وثناءً ،
وبماله منحاً وعطاءً ، ومن كثُرت نعمته انصرفت وجوه الناس إليه ، فكانوا
يقصدون بابه يقترضون منه المال ، فإذا جاءه أحدهم نظر في حاله ، إن كان
موسراً لم يُعجّل في طلب ماله منه ، وإن كان معسراً تجاوز عنه فأسقط عنه
بعض الدين أو كلّه ، واستمرّ على ذلك القانون الفريد الذي وضعه لنفسه طيلة
حياته .
وعندما
حانت لحظة الوفاة ، وتلقّفته ملائكة الموت ، سألته عن أرجى عملٍ يراه في
حياته ، فلم يستحضر شيئاً يرى أنه مُستحقّاً للذكر ، فكرّر الملائكة عليه
السؤال ، فتذكّر صنيعه بالمقترضين ، فأخبرهم بالطريقة التي عاملهم بها ،
وهو يرى في قرارة نفسه أن العمل أقلّ من أن يُذكر ، لكنّ الله سبحانه
وتعالى أكرم الأكرمين وأرحمهم ، فقد كافأه على صنيعه فتجاوز عنه وأدخله
الجنة ، فيا له من أجر ، ويا له من تكريم .
وقفات مع القصّة
تتراءى
للناظر في هذه القصّة العديد من الدروس والوقفات التي يمكن أن نستلهمها
للعظة والعبرة ، ونبدأ بتناول صفةٍ إلهيّةٍ عظيمة أرشد إليها الحديث ، وهي
الرحمة الإلهيّة التي وسعت كلّ شيء ، وما من أحدٍ إلا ويتقلّب في رحمة الله
في ليله ونهاره ، وقد تجلّت رحمته سبحانه في آلائه ونعمه ، ورزقه وتدبيره ،
وهدايته لمن شاء من خلقه ، وقبوله لتوبة التائبين ، وستره وإمهاله للعصاة
والمذنبين ، فسبقت رحمته غضبه ، وجماع ذلك قوله تعالى : { ورحمتي وسعت كل شيء } ( الأعراف : 156 ).
ومن
دلالات القصّة ، الإشارة إلى السنّة الكونيّة التي لا تتغيّر ولا تتبدّل ،
وهي أن الجزاء من جنس العمل ، فرأينا أن الله سبحانه وتعالى قد تجاوز عن
ذلك التاجر لتجاوزه عن الناس ، وهكذا يجد كل عامل جزاء عمله ، فإن عمل
خيراً وجد مثله ، وإن عمل شرّاً وجد عاقبة فعله ، ومن زرع الشوك لن يجتني
العنب .
ووقفة
ثالثة مع الرسالة التي تضمّنتها هذه القصّة العظيمة من الدعوة إلى التيسير
على الناس وإقرار مبدأ التراحم ، فمشاقّ الحياة كثيرة ينوء عن حملها الكثير
من الناس ، لا سيّما الضعفاء والمعسرين ، واليتامى والمساكين ، ومن هنا
جاءت تعاليم الإسلام لتحثّ الناس على السماحة في معاملاتهم ، كما قال النبي
– صلى الله عليه وسلم - : ( رحم الله عبدا سمحاً إذا باع ، سمحاً إذا اشترى ، سمحاً إذا قضى ، سمحا إذا اقتضى ) رواه البخاري ، وكذلك بيّن النبي – صلى الله عليه وسلم – أجر أهل السماحة فقال : ( من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ) رواه مسلم ، وقال أيضاً : ( من نفس عن غريمه أو محا عنه ، كان في ظل العرش يوم القيامة ) رواه أحمد .
وللأسف
الشديد فإن المشاهد من أحوال بعض الناس خلاف ما دعت إليه القصّة ، فهم لا
يلتفتون إلى هذه المعاني السامية ، حتى كأنهم وحوش في ثيابٍ آدمية ،
فيسحقون الضعفاء ويدخلونهم في دوّامة لا تنتهي من الديون الرّبوية التي
يأخذونها من غير حق ، ويدفعهم الجشع والطمع إلى زيادة الدين مقابل التأجيل ،
فأين ما يفعلونه من تعاليم الوحي : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون } ( البقرة : 280 ) ؟.
وآخيراً نقول :
أيها المسلم ، لا تحقرنّ من المعروف شيئاً مهما كان صغيراً ، فلعله يكون
عند الله كبيراً ، يغفر الله لك به ، ويكون الطوق الذي تنجو به من عذاب
السعير .