السمنة مشكلة معقدة الجوانب لا يزال العلماء يجاهدون لفهمها، ففي بعض الحالات تبدو الجينات هي المسؤولة عن حدوثها، وفي حالات أخرى يبدو أن أنواعا من التشكيلات أو التوليفات لعدد من العوامل الهرمونية، الأيضية (المتعلقة بالتمثيل الغذائي)، والسلوكية، تلعب دورها في حدوث السمنة. إلا أنه وفي غالبية الحالات يصعب على العلماء التوصل إلى السبب الحقيقي للسمنة.
لغز السمنة
* إن من الصعب على طبيب ما فهم مسألة حدوث البدانة الزائدة لدى مريض بمفرده، فكيف يمكن للأطباء إذن فهم انتشار السمنة على نطاق العالم؟ كما أن من الصعب فهم الكيفية التي يمكن بها للتركيبة الجينية للإنسان، ومستويات الهرمونات لديه، أو مدى نشاط عملية الأيض، أن تغير بشكل سريع وفي نطاق واحد من الزمن حياة ملايين الناس، خصوصا أن السمنة قد أخذت في الازدياد بحدة عبر أرجاء العالم الصناعي.
وفي خلال فترة تقل عن 40 سنة ازداد انتشار السمنة في الولايات المتحدة بنسبة تزيد عن 50%، وبهذا أصبح الآن اثنان من كل ثلاثة من الأميركيين من البالغين من البدناء أو السمينين، بل والأسوأ من ذلك فإن وباء السمنة قد أخذ بالانتشار نحو جيل الأطفال.
ويعتبر مرض السكري وأمراض القلب من النتائج المتوقعة الناجمة عن السمنة، إلا أن أمراضا أخرى تنجم عنها مثل السرطان، والتهاب المفاصل، والكآبة، وحصوات الكلى، وأمراض الكبد الدهين، والضعف الجنسي. وإجمالا فإن السمنة والبدانة مسؤولتان عن وفاة واحد من كل عشرة أميركيين، بينما تمتص موارد مالية تصل إلى 223 مليار دولار سنويا.
ولكي يتم التحكم في وباء السمنة علينا أولا فهم أسبابها، التي تشير الأبحاث إلى أهمها.
طبيعة العمل
* إن محاولات فهم أسباب السمنة لا تزال تجري على قدم وساق. وقد أظهرت دراسة نشرت عام 2011 دور طبيعة العمل العصري كعامل مهم في حدوثها.
وباستخدام بيانات من مكتب إحصاءات العمل الأميركي، أخذ العلماء في تقييم العلاقة بين المجهود البدني في مواقع العمل وبين السمنة، على مدى العقود الأخيرة. وفي عام 1960 كان نصف الأعمال تقريبا في القطاع الخاص يتطلب جهدا متوسطا على أقل تقدير، لكن في عام 2010 كانت نسبة تقل عن 20% من تلك الأعمال تتطلب بذل مثل ذلك المجهود.
ويفسر التقدم في الصناعة الإنتاجية وفي الزراعة الانخفاض في مقدار الطاقة اللازمة التي يبذلها الإنسان أثناء عمله. وهذه أنباء سارة لصحة الظهر لدى الإنسان، لكنها أنباء سيئة لصحة البطن لديه! وفي الواقع إن التغير في بذل الطاقة أثناء العمل يعني أن الرجل الأميركي المتوسط يحرق يوميا الآن كمية من السعرات الحرارية أقل بـ142 سعرة عن الكمية التي كان يحرقها عام 1960. وقد يبدو ذلك ضئيلا ولكنها تتجمع عبر السنين. وهكذا وبين عام 1960 و1962 كان وزن الأميركي المتوسط يبلغ 169 رطلا (76.66 كلغم)، إلا أن هذا الوزن وصل بين عامي 2003 و2006 إلى 202 رطل (91.63 كلغم).
ويمكن أن يعتبر انخفاض الطاقة المبذولة بمقدار 142 سعرة حرارية يوميا مسؤولا عن ازدياد 28 رطلا من تلك الـ33 رطلا التي اكتسبها الأميركي المتوسط خلال الفترة المدروسة.
كما وجدت دراسة أخرى عام 2011 شملت 288 ألفا و498 شخصا من الأوروبيين أن الخمول يقود إلى زيادة الوزن، خصوصا في منطقة البطن.
أوقات الراحة
* لا يقود انخفاض النشاط البدني أثناء العمل إلى زيادة الوزن إن جرت موازنته بزيادة في التمارين أثناء أوقات الراحة، ولكن ولسوء الحظ فإن ذلك لم يحدث، فعبر عقود من السنين ظلت نسبة الأميركيين الذين قالوا إنهم ينفذون التوصيات الوطنية بشأن إجراء التمارين أثناء أوقات راحتهم على حالها، وهي 25%، إلا أن القياسات الموضوعية تفترض أن النسبة الحقيقية للبالغين الذين يجرون تمارين رياضية كافية هي أقرب إلى 5%. هذا في وقت لا يتطلب الأمر أكثر من إجراء تمرين رياضي بالمشي 30 دقيقة فقط يوميا! والآن، ماذا يفعل الناس إن كانوا لا يعملون عملا إضافيا أثناء أوقات راحتهم من العمل؟ الجواب أنهم يجلسون خاملين، فالأميركي المتوسط ينفق في الواقع 55% من ساعات يقظته وهو جالس. وعندما يجلس الأميركيون فإنهم في الغالب يتابعون العروض على الشاشة، إما على شاشة الكومبيوتر في مكاتب العمل وإما على شاشة التلفزيون في صالة البيت. وإن كان العمل الذي لا يحتاج إلى مجهود بدني هو سمة العصر المعلومات فإن مشاهدة التلفزيون هي عمل اختياري.
وقد وجدت دراسة لجمعية السرطان الأميركية على 123 ألفا و216 شخصا من البالغين الكبار كان متوسط أعمارهم 63 سنة، أن الجلوس يمكن أن يشكل خطرا على الصحة. وأفاد العلماء بأن معدلات الوفاة بين الرجال الذين قضوا معظم أوقاتهم في الجلوس كانت أعلى بنسبة 17% من الآخرين الذين كانوا يجلسون قليلا من الوقت. وكان أغلب حالات الوفاة تلك راجعة إلى أمراض القلب والأوعية الدموية، وظلت النتائج على حالها حتى بعد أن أخذ العلماء بنظر الاعتبار عوامل خطر أخرى للإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية.
وقد استبعدت دراسة جمعية السرطان أوقات الجلوس أثناء العمل، إلا أنها درست كل أوقات الجلوس الأخرى، ومنها أوقات الجلوس أثناء القراءة، وأثناء حضور الاجتماعات والفعاليات، وأثناء اللقاءات الاجتماعية، وعند مشاهدة برامج التلفزيون.
وقد أفادت دراسة أوروبية عام 2011 ركزت خصوصا على مشاهدة التلفزيون بنتائج مماثلة. وكان 12 ألفا و608 من الرجال والنساء متوسط أعمارهم 61 سنة قد تطوعوا في الدراسة. وفي بداية الدراسة قدم جميع المشاركين معلومات مفصلة عن تاريخهم الطبي، والأدوية التي يتناولونها،، والعادات الصحية لهم ومنها نظامهم الغذائي والتدخين وتناول الكحول، وفترات النوم، والتمارين الرياضية ومشاهدة التلفزيون. كما خضعوا كلهم لقياسات الطول والوزن وطول محيط الخصر، وضغط الدم، ومستوى الكولسترول، ومستوى سكر الدم.
وعلى مدى سبع سنوات من الملاحظة قارن العلماء بين الرجال الذين كانوا يقضون أغلب أوقاتهم في مشاهدة التلفزيون (أكثر من 3.6 ساعة في المتوسط في اليوم)، والرجال الذين قضوا أقل أوقاتهم أمام الشاشة (أقل من 2.5 ساعة في اليوم).
وبالنسبة للأشخاص الذين كانوا يشاهدون التلفزيون بكثرة، حتى ولو كانوا يتناولون أية سعرات حرارية أكثر مما يتناوله الآخرون، فإنهم كانوا يتناولون قدرا أقل من الخضراوات والفواكه، كما كان طول محيط الخصر لديهم أكبر، ورصد لديهم ضغط دم أعلى، ومستوى أعلى لسكر الدم، ومستوى أعلى للدهون الثلاثية، إضافة إلى مستوى أقل من الكولسترول العالي الكثافة «HDL» (الحميد). ولذا فليس من المستغرب أن يزداد لديهم خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية حتى بعد أخذ عوامل الخطر الأخرى بنظر الاعتبار.
وإجمالا فإن كل ساعة إضافية من مشاهدة التلفزيون تشير إلى توقع بحدوث زيادة بنسبة 6% في خطر ظهور أمراض القلب. كما قدمت دراسة تحليلية مقارنة عام 2011 لبيانات مستخلصة من ثماني دراسات نتائج مشابهة: كل ساعة من مشاهدة التلفزيون يوميا لها علاقة بزيادات تبلغ 10% للإصابة بمرض السكري، و7.5% للإصابة بأمراض القلب، و6.5% للوفاة.
ولذلك فعليك أن تتأمل في هذه المقادير عندما تبحث عن أداة التحكم (ريموت كنترول) بجهازك التلفزيوني! الغذاء العصري
* الجلوس أثناء العمل والخمول في أوقات الراحة يساهمان بحصة كبيرة في انتشار وباء السمنة، إلا أن للغذاء العصري حصته أيضا من اللوم! بهدف التوصل إلى استنتاجات حول كيفية تأثير العادات الغذائية على الوزن، أخذ باحثون من جامعة كارولينا الشمالية في تقييم بيانات مستخلصة من أربعة استطلاعات وطنية شملت 44 ألفا و754 من الأميركيين من أعمار 19 سنة فأكثر. وغطت الدراسة فترة 30 سنة من عام 1977 وحتى نهاية عام 2006، وهي الفترة التي شهدت زيادة متسارعة في طول محيط الخصر.
وخلال فترة الدراسة ازدادت كميات السعرات الحرارية المتناولة بشكل مضطرد، إلا أن أسس هذه الزيادة تغيرت عبر الزمن. فخلال النصف الأول من فترة الدراسة كانت الزيادة في حجم الوجبات تشكل حصة الأسد في زيادة عدد السعرات الحرارية تلك. ولكن ومنذ التسعينات من القرن الماضي عندما حذر الأطباء وخبراء التغذية من أخطار الحجم الكبير لوجبات الطعام الأميركية وحجم الأكلات الخفيفة، استقر حجم الوجبات ثم انخفض بشكل ضئيل. كما تحسنت قليلا خيارات الغذاء وانخفضت كميات السعرات الحرارية المتناولة قليلا في التسعينات من القرن الماضي.
لكن الانتصار لم يتحقق للأطباء وخبراء التغذية، فرغم استقرار الحالة أخذ الأميركيون يتناولون الأطعمة بشكل أكثر تكرارا، فخلال فترة الـ30 سنة ازداد عدد الوجبات المتناولة في المتوسط من 3.8 إلى 7.9 وجبة في اليوم.
وعلى الإجمال فإن حجم الوجبة سوية مع تكرار تناول الوجبات هما المسؤولان عن ازدياد كمية السعرات الحرارية المتناولة. وقد أصبحت المشروبات الغازية المحلاة بالسكر المساهمة الكبرى في زيادة السعرات. ولأن هذه الزيادة في السعرات حدثت بشكل بطيء فإن متوسط الزيادة في السعرات الحرارية المتناولة بلغ 28 سعرا يوميا. وقد يبدو ذلك المقدار ضئيلا إلا أن تراكمه على مدى 30 سنة أدى إلى زيادة طول محيط الخصر.
ما العمل؟
* تمنحنا دراسة لجامعة هارفارد نشرت عام 2011 فرصة لمعرفة كيفية تأثير الخيارات الشخصية على وزن الفرد على مر الزمن. وقد شملت الدراسة ثلاثة أجيال من الأميركيين المتطوعين رجالا ونساء، إذ درست مجموعتان بين عامي 1986 و2006، بينما درست المجموعة الثالثة بين عامي 1991 و2003. وكان كل المتطوعين البالغ عددهم 120 ألفا و877 شخصا سليمين من الأمراض المزمنة ولم يكونوا من السمينين في بداية الدراسة.
ورغم أن المتطوعين كانوا من أصحاب المهن الصحية فإنهم لم يكونوا محصنين ضد عادة زيادة الوزن الأميركية ببطء وبشكل مستمر عند الوصول إلى أواسط العمر. وكان متوسط الزيادة في الوزن 0.8 رطل (363 غراما) في السنة. وبنظرة متفحصة تظهر لنا الأسباب التالية لظهور زيادة الوزن:
* النظام الغذائي. عثر على صلة بين زيادة الوزن وتناول شرائح البطاطا، والمشروبات المحلاة بالسكر، واللحوم الحمراء، واللحوم المعالجة صناعيا. وعلى النقيض من ذلك بدا أن الحصص الكبيرة المتناولة من الخضراوات والفواكه والحبوب الكاملة والمكسرات ولبن الزبادي تقي من زيادة الوزن. وعلى الإجمال فإن الأشخاص الذين تناولوا أنماط الغذاء الأولى ازداد وزنهم 1.4 رطل (635 غراما) مقارنة بالآخرين الذين تناولوا الغذاء الصحي.
* التمارين الرياضية. التمارين الرياضية تقي من زيادة الوزن، وقد جنى أعظم فوائدها المشاركون الذين شرعوا في إجرائها أو زادوا منها أثناء فترة الدراسة.
* مشاهدة التلفزيون. التلفزيون هو عدو التمارين الرياضية وصديق وجبات الطعام، وقد تراكم أكثر الوزن بسبب التلفزيون، إذ أضافت ساعة مشاهدة يومية له على مدى فترة أربع سنوات مقدار 0.8 رطل (363 غراما).
* النوم. النوم القليل جدا (أقل من 6 ساعات يوميا) أو الكثير (أكثر من 8 ساعات يوميا) يزيد توقعات زيادة الوزن، إلا أن الأشخاص الذين ناموا فترة نوم صحيحة كانوا من أقل من يعانون من زيادة الوزن.
* التدخين. إن إقلاع المدخنين عن التدخين هو الخطوة الأولى لضمان صحتهم الجيدة، ولكن الأشخاص الذين أقلعوا عن التدخين خلال فترة الدراسة زادت أوزانهم 5.2 رطل (2.36 كلغم) خلال أربع سنوات.
وهكذا فقد أظهرت دراسة هارفارد أن الخيارات الغذائية الشخصية هي التي تشير إلى تفسيرات ظاهرة البدانة والسمنة.
مسألة حسابية
* السمنة مسألة معقدة، كما أن ضبط الوزن مسألة مثيرة للجدل. هل الناس سمينون بسبب جيناتهم، أم هرموناتهم، أم أيضهم (التمثيل الغذائي)، أم عاداتهم؟ هل ستقلل وزنك باعتماد حمية غذائية حاوية على كربونات قليلة أم أخرى حاوية على بروتينات عالية، أم ثالثة حاوية على دهون عالية، أم باعتماد حمية حاوية على دهون قليلة، أم على بروتينات قليلة، أم كربونات عالية؟ هل تمارين الآيروبيك القوية أفضل من التمارين المعتدلة أم تمارين المقاومة هي الأفضل؟
إن الأبحاث الطبية مليئة بإجابات متضاربة، ولذا فإن الجدال لا يزال محتدما. وإن بدت الإجابات على هذه الأسئلة صعبة فذلك لأن الأسئلة هي أسئلة خاطئة، ففي التحليل النهائي نجد أن زيادة الوزن ليست سوى مشكلة حسابية بسيطة: إن تناولت كميات أكثر من السعرات الحرارية أكثر مما تحرقه منها فإنك ستزداد وزنا، وإن كنت تحرقها أكثر فسيقل وزنك