ثمة اعتقاد شائع بين الناس، وهو أنه ما تذكر كلمة "العبادة" إلا ويخطر على الذهن اقتصار تلك الكلمة على أركان الإسلام الخمسة، وربما كان هذا عائداًً إلى الترتيب الفقهي المحض لكتب المذاهب الفقهية، حيث يطلق اسم العبادات على الأبواب الخاصة بأركان الإسلام، فارتبط هذه المسمى بها فحسب.
ولكن الحقيقة الشرعية لمدلول هذه الكلمة، هو ما يذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالة العبودية: "العبادة هياسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة".
يقول سيد قطب في الظلال: "إنما أطلقت لفظة (العبادة) على (الشعائر التعبدية) باعتبارها صورة من صور الدينونة لله في شأن من الشؤون، صورة لا تستغرق مدلول (العبادة) بل إنها تجيء بالتبعية لا بالأصالة، فلما بهت مدلول (الدين) ومدلول (العبادة) في نفوس الناس صاروا يفهمون أن عبادة غير الله التي يخرج بها الناس من الإسلام إلى الجاهلية هي فقط تقديم الشعائر التعبدية لغير الله، كتقديمها للأصنام والأوثان مثلاً، وأنه متى تجنب الإنسان هذه الصورة فقد بعد عن الشرك والجاهلية وأصبح (مسلماً).."!! (في ظلال القرآن، 4/ 1902).
فالأمر الواقع أن العبادة شاملة، فكل ما أمر الله به ونهى عنه، ورغب فيه ورهب منه، هو تقرب إلى الله تعالى وزلفى إليه، فقل لي بربك! أي دين هذا الذي يجعل كل ثانية من حياة أتباعه، ثانية نافعة منتجة، فتزيد حسناته وتعلو درجاته، وربما كان في راحة أو نوم، أو يلبي حاجات فطرية كالأكل والنكاح وغيره، أو يقوم بواجبات أساسية كالنفقة والخدمة والقيام على شؤون البيت وغيره!
قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِتحيا أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162ـ 163].
قال زَبيدُ بن الحارثِ: "أُحبُّ أن يكونَ لي في كُلِّ شيء نيَّةٌ، حتى في طعامي وشرابي".
بل إن نهر الحسنات، ليظل جارياً رقراقاً، حتى وإن تعثرت مسيرة العمل والعطاء بعذر قاهر، كمرض أو سفر وغيره، قال صلى الله عليه وسلم: "إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حبسهم العذر"، وفي رواية: "إلا شركوكم في الأجر" (البخاري ومسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً" (رواه البخاري).
لعمر الله إن هذه المنّة الإلهية العظيمة، لتفجر في قلب كل عبد همام، براكين من العزيمة الهادرة والرغبة الملتهبة في رفع الدرجات واحتساب الأعمال وإصلاح النيات، فيجتهد لأن يعمر كل لحظة من عمره بالطاعة والإنتاج والعطاء، فيصبح فرداً صالحاً في نفسه، مصلحاً في مجتمعه، فتتحقق بذلك الغاية من الوجود الإنساني {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
إن المرء في لحظات الصفاء والسكون، لتتبادر إليه أسئلة عظيمة، "من أنا، ولماذا أنا هنا؟ وإلى أين أمضي؟"، وغيره من أسئلة الوجود والغاية منه، على أسوارها زلت الأقدام وضلت الأوهام، وسببت الحسرة والقلق لكثير من الناس، لكن من اعتصم بالله، وكان على نور من الله، عرف حقيقة الوجود وغايته، وأخبت إلى ربه بالطاعات والعبادات، فسكن قلبه واطمأنت نفسه، ومضى يشق سبيله في الحياة، في إيمان وأمن وسلام، حتى يعمر الأرض ويؤدي عليها ما استخلفه الله إياه.
أما إذا خلت النفس من معاني الصلة بالله، وأقفرت جنباتها من غيث الإيمان الذي به حياتها وسعادتها، فإن هذه الأسئلة اليائسة تقلق مضجعها وتحيل حياتها بؤساً وحسرة وضنكاً، فتصرخ بأسى ولوعة: "أين هي السعادة؟ من ذا الذي يستطيع أن يقول إنه سعيد؟ إنني أتألم، أتألم، أتألم من فقد الإيمان، وإنني أتألم من شكي في الحياة الأبدية، إن فكرة الحياة الآخرة هذه تؤلمني إلى حد الرعب، إلى حد العذاب، إلى حد اليأس، وهي عذابي الوحيد بحق، أخاف أن أموت فما يبقى مني بعد الموت شيء، لا يبقى سوى القليل من العشب على قبري كما يقال..". (على لسان إحدى بطلات رواية "الإخوة كرامازوف"، للأديب الروسي: فيودور دوستوفيكي، ترجمة د. سامي الدروبي).
فهذا العبادة هداية للعاملين، الذين هم للهدى طالبين وعن النور باحثين، قد أخلصوا لربهم الدين واعتصموا بحبله المتين، فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون، {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ تحياافِرُونَ}